خالد ساطور
https://www.facebook.com/profile.php?id=100084840822792
ما هو هذا الوطن الذي يكن له الوطنيون الجزائريون الجدد حبّاً غير مشروط؟ أهو جزائر اليوم بسكانها الملايين العاجزين على تقرير مصيرهم رغم أن الحرب التحريرية لم تعدهم إلا بتحقيق هذا المطلب وأنها آتت أكلها قبل ستين سنة من الزمن؟ أم هو النظام السياسي الذي أنجبته هذه الحرب كأداة سيادة في خدمتهم فانقلب عليهم ليصبح العامل الأساسي في إعجازهم؟
هؤلاء الجزائريون الذين يلقبون أنفسهم في كل مناسبة بـ"الوطنيين" (Les patriotes)، نراهم يتدخلون بالتضافر في شبكات تواصل عابرة للقارات، متلفظين باللعان. باتوا منذ سنين يشنّعون على كل من بادر إلى انتقاد النظام، متفوهين جميعاً بنفس الخطاب الموالي للسلطة، لا يضيفون إليه إلا رمياً بالخيانة متعدد الاتجاهات أصبح اليوم لهجةً عادية تصاحب في أغلب الأحيان توعّد النظام بإسقاط أشد العقوبات على المعارضين وتنفيذها المتزامن على كل من كان منهم في متناول اليد.
نخبة ملحقة بنخبة ملحقة
لا بد أنهم معتمدون – إن لم نقل مأجورون – للقيام بهذه المهمة ولا نجد لهم ظرفاً مخففاً سوى أن في عداد خصومهم، هناك زمرةً من الصحافيين المزعومين وناشري الفيديوهات الجزائريين التابعين بالتأكيد إلى أنظمة أجنبية خوّلت لهم دور التهجم على بلادهم، نظاماً وأمةً وتاريخاً.
على أن "الوطنيين الجدد"، بحكم استعمال الطرفين أساليب مماثلة، يقفون في نفس الخندق مع خصومهم هؤلاء، بحيث يقتسمون معهم صفة الخادم لمخدومه التي لا يحسدون عليها. ومهما يكن من أمر، فلا مبرر لمثل هذه الممارسات عندما يستهدفون بها جزائريين لا ذنب لهم غير الإدلاء بتصورهم لمصلحة البلاد الذي دفع بهم إلى انتقاد النظام وبالأخص إلى الانتصار للحراك والتنديد بالقمع الذي يسلَّط على مناضليه، من اعتقال تعسفي وإعمال العنف البدني والنفسي.
وأن تُضفى شرعية حب الوطن على مثل هذا التشنيع الذي يخلص إلى التخوين وتدنيس أعراض الأشخاص، بل أن يُجعل من حب الوطن حكراً على من اعتمدوا هذا التصرف، فهذا ما يحوّل الخطأ إلى خطيئة أقل ما يقال عنها أنها تضليل وافتراء ينتهيان بها إلى جسامة لا تقل عن جسامة الخيانة بالذات.
أما عن الوطن الذي ينسبون "الوطنيون الجدد" أنفسهم إليه، دون غيرهم، غني عن البيان أنهم تكونوا كنخبة ملحقة بالنخبة الحاكمة التي لا تملك من شرعية إلا ما تدّعيه من وفاء إلى النخبة التي حررت البلاد. فهي بالتالي نخبة ملحقة يتلاشى إلحاقها بالنخبة الأصلية يوماً بعد يوم. يجوز لنا إذن أن نقول إن "الوطنيين الجدد" يشكلون نخبة ملحقة بنخبة ملحقة (وبموجب توكيل قابل للسحب في أي وقت!).
وهذه الظاهرة التراتبية يشترك فيها ورثة جل الحركات التحريرية التي عرفها التاريخ، بل حتى الحركات الدينية التي لم تلبث مع مرور الزمن أن تنحرف عن رسالة مؤسسيها ولا تجد من سبيل للإبقاء على استمرارية السيرورة إلا تقديس عمل التأسيس والآباء المؤسسين، ليعود هذا التقديس عليها وعلى أعمالها بالمثل.
وبديهي أن تقديس المؤسسين لغرض تجنبهم الانتقاد لا يتم إلا بتحريف رسالتهم سعياً إلى مطابقتها مع خطاب حكام الحاضر وممارساتهم. ولا غرابة أن نجد "الوطنيين الملحقين" ينشطون لإنجاح العملية.
وبهذه الكيفية تُخفى القطيعة وتبرز الاستمرارية: من تولى إدارة تركة المؤسسين لا بد أن يعدّ نفسه متمماً لإنجازاتهم.
تقديس الماضي والحاضر معاً في صورة النظام
على أن الحقيقة تثبت كل يوم أن ما نشاهده اليوم إنما هو إعادة تأسيس فاقدة تماماً لمرجعيتها المزعومة، بل جاحدة إياها. وفي الحالة الجزائرية، أول سبب لذلك أن المرجعية الثورية هي بطبيعتها التاريخية مطاطة للغاية تؤهل أي فرقة تقلدت السلطة لوضع مشروعها تحت رايتها. ونتيجة ذلك خطيرة جداً بحيث أن الورثة المزعومين ينوبون مناب مورّثيهم ليس كمتممين لرسالتهم فحسب، بل أيضاً كمؤوّليها الحصريين.
وتذكّر هذه العملية (أو بالأحرى هذه المناورة) بالنقلة التي عرفها الإسلام من القرآن إلى الحديث والتي كان فيها للإمام الشافعي اليد الطولى عندما أقرّ بأن كل ما وُضع من حديث على لسان نبي الإسلام بعد مرور عدة عقود على وفاته يعتبر كالقرآن تشريعاً إلهياً متعالياً.
فمثلما أدّت هذه النقلة إلى انقراض أهل القرآن الأوائل (الذي اكتمل بهزيمة المعتزلة)، الذين لم يكن للإسلام في صدره من أهل آخرين سواهم، ليحل محلهم أهل السنة، فإن تقديس السلطة الحاكمة في جزائر اليوم يهدف إلى استبدال محبي الوطن الجزائري بالوطنيين الجدد.
استبدال التخوين بالتكفير
ومثلما تحررت أحكام السنة من مقتضيات المكان والزمان فراحت تُخرج المسلمين من حكم التاريخ، فإن الوطنية الجديدة تسعى اليوم إلى شل أي اندفاع يسمح للجزائر بأن تنطلق من ماضيها الواجب تأويله وانتقاده إلى المستقبل الواجب تصميمه وإنجازه. ما دام الوطنيون الجدد يسيطرون على الساحة بترخيص من الحكام، فإن تقديس الماضي والحاضر معاً في صورة النظام الحالي يحكم على الجزائريين بالارتداد الدائم من الواقع إلى أوهام الدعاية، تحت طائلة التخوين الذي اكتسب، بفضل قوانين التجريم المتكاثرة، الوظيفة الردعية التي ما انفك التكفير يمارسها في إسلام السنة في انحرافاته الأصولية.
فليتأمل "الوطنيون الجدد"، الذين يصفون أنفسهم بالحزام العازل عن أخطار الإسلام السياسي، الدرس الذي يجب استخلاصه من التاريخ: لا يصح حب الوطن، ولو كانت نزعته إطلاقية، إلا إذا كان محكوماً بالواقع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire