https://www.facebook.com/profile.php?id=100084840822792
خالد ساطور
ترويض الماضي لتقوية القبضة على المستقبل. الادعاء أن الماضي "مشترك"، أي الاستئثار به ليكون مطابقاً لمشاريع مشتركة. إعادة سرده بصياغة تسمح بتحييده والتصرف فيه بلا قيد أو شرط حتى يمكن التصرف في المستقبل.
هذا هو الهدف الذي وضعه الحكام الفرنسيون والجزائريون لأنفسهم من خلال تنصيب لجنة مؤرخين مختلطة. يبدو أن هذا المشروع ينطلق من تصور لماضي العلاقات الجزائرية-الفرنسية كحقل ملغوم لا يمكن للحاضر أن يطأ فيه طريقاً دون أن يعرّض المستقبل لكل الأخطار، بما يحتوي عليه من ألغاز مفزعة لم يتم حلها بعد، فظلت تتحدى اليقين.
إن هذه المقاربة للتاريخ تكاد أن تكون تحلي-نفسية لأنها دعوة إلى قديم مستور يفترض وجوده، إلى أقطار المكبوت لانتشاله من بئر اللاوعي والتعبير عنه بالكلمات حتى نتخلص من شحنته الارتدادية.
وهو السبب بالذات الذي يدفعنا إلى رفضها لأن مقدماتها خاطئة. الواقع أن هذا المكبوب بات مكشوفاً جلياً لا غبار عليه بفضل تجربة الجزائريين والجهود التي بذلوها في مرحلتين: مرحلة التحليل ثم مرحلة العمل.
لقد استغرق التحليل النصف الأول من القرن العشرين متقدماً، خطوةً تلو الأخرى، نحو إدراك طبيعة دوامة السيطرة والتسلط التي كان يتخبط فيها الجزائريون منذ ما يقارب القرن. وبذلك كانوا سباقين إلى إزالة الإبهام عن تاريخهم، في حين أن الفرنسيين ظلوا في الخلف، أسرى حلمهم الأحمق: فرض حضورهم على الجزائريين إلى الأبد. كل هذا يدل على أن الجزائريين كان لهم الفضل في استخراج المكبوت من مغاور الوعي الباطن والإدلاء به بيّناً واضحاً: الجزائر لم تكن يوماً فرنسا، بل كان لها دوماً وجود منفصل.
بعد أن أثمر التحليل هذه القناعات، جاء وقت العمل إلى أن اندلعت حرب التحرير التي خاضها الجزائريون، بعد أن استقروا في وعيهم الجديد، ضد دولة لم تبرح من أوهامها فوظفت أسلحة اللاوعي الاستعماري المفضّلة، أي العنف والكراهية، متجاهلةً مبدأ حقيقةٍ لا مفر منها.
واليوم، بعد 60 سنة، ما بقي من هذا التاريخ شيء يحتاج إلى التمحيص: لقد تم حل كل الألغاز وإخراج كل المكبوت من ظلمات اللاوعي.
هذا على الأقل فيما يتعلق بالعلاقة الثنائية الجزائرية-الفرنسية للتاريخ. أما بالنسبة لكلا البلدين على حدة، فيظل مديناً بالعمل الذي تمليه عليه ظروفه الخاصة.
من جانب فرنسا، فإنها لم تدرك بعد أنها ثابرت، طيلة العشريات التي تلت الاستقلال، في سلوكها المهيمن على مستعمراتها السابقة وهو ما يدل على أنها لم تقتلع إلى يومنا هذا المكبوت الاستعماري من عمق تصوراتها. وأحسن دليل على ذلك مشروع لجنة المؤرخين المختلطة الذي افتتحنا به هذا الحديث. هو إنكار للحقيقة يقوم مقام الظاهرة التي يطلق عليها التحليل النفسي مصطلح "المقاومة": عندما يجمع الشخص جل قواه النفسية لإبقاء الكبت.
أما من الجانب الجزائري، فإن الاهتمامات كل الاهتمامات، والجهود كل الجهود يجب أن تكرّس في سبيل الاضطلاع بتاريخ الدولة والمجتمع بعد الاستقلال للإجابة عن بعض الأسئلة المحرجة:
- كيف انقلب نصر مبين توّج بلحظة حماس وتعبئة منقطعة النظير إلى هزيمة كبرى في المدى الطويل لا تشخَّص بعارض ذي دلالة أوضح من موافقة الحكام الجزائريين على مشروع الكتابة المشتركة الجزائرية الفرنسية للتاريخ؟
- ما الذي يفسر أن صحوة الوعي الجماعي الذي آلت إلى تحقيق الاستقلال أعقبتها كل هذه الكوارث التي وضع عليها من جديد غطاء الكبت ليُسكت عنها نهائياً، تحت طائلة العقوبات القانونية وغير القانونية.
في هذا الموضوع كما في الموضوع السابق، لا وجود لألغاز تنتظر الفك: في غياب تاريخ يجوز أن يجهر به بكل حرية، فإن الوعي الشعبي فسرها وأوضح أسبابها فور وقوعها قبل أن يودعها أمانةً بالذاكرة الجماعية.
ما الذي دفع حكام الجزائر إلى الاحتذاء بفرنسا في مشروع لا يجدي نفعاً كمشروع اللجنة المختلطة؟ كان الأحرى بهم أن يفرغوا إلى ما تقتضيه مصلحة البلاد: تحرير كلمة الجزائريين (من صحافيين ومؤرخين وعلماء اجتماع ونفسانيين ومواطنين عاديين) خدمةً لتجلي الحقيقة المتعلقة بالمآسي والتضليلات والاستحواذات والظلائم التي جعلت من تحرير البلاد هزيمةً للعبقرية الوطنية.
بدلاً من أن يتنازلوا عن حقائق تاريخ الكفاح ضد الاستعمار، كان الأحرى بالحكام الجزائريين أن ينزلوا عند مطالب المواطنين وأن يعترفوا بأنهم سخروا قدرات الأمة لتدجين المجتمع خلال الستين سنة الأخيرة: من قمع منظمة المقاومة الشعبية (ORP) في يونيو 1965 إلى قمع الحراك المتواصل حتى اليوم مروراً بانتهاكات حقوق الإنسان التي أدمت القلوب والأجساد في التسعينيات.
إلا أن رجوعهم إلى هذا الصواب مقيد بشرط مسبق: أن يقتنعوا بأن شريكهم الاستراتيجي ليس فرنسا، بل الجزائريون.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire